فصل: ابن عبد المطلب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.يوم بعاث:

ثم إن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا. فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة، ومكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببعاث، وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج مرو بن النعمان البياضي، وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس. فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً.
ثم إن الأوس وجدت مس السلاح فولوا منهزمين نحو العريض. فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان منى بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله، فبينا عبد الله بن أبي ابن سلول يتردد راكباً قريباً من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو ابن النعمان قتيلاً في عباءة يحمله أربعة رجال، كما كان قال له. فلما رآه قال ذق وبال البغي! وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم. وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم، فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، وقد تقدم ذكره، ونجى يومئذٍ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أخذه فج وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني القريظة، وسنذكره.
وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء بالإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله وكفى الله المؤمنين القتال.
وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي:
أتعرف رسماً كالطّراز المذهب ** لعمرة ركباً غير موقف راكب

ديار التي كانت ونحن على منىً ** تحلّ بنا لولا رجاء الركائب

تبدّت لنا كالشمس تحت ** زبدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب

ومنها:
وكنت امرأً أبعث الحرب ظالماً ** فلمّا أبوا شعّلتها كلّ جانب

أذنت بدفع الحرب حتّى رأيتها ** عن الدفع لا تزداد غير تقارب

فلمّا رأيت الحرب حرباً تجرّدت ** لبست مع البردين ثوب المحارب

مضعّفة يغشى الأنامل ريعها ** كأنّ قتيريها عيون الجنادب

ترى قصد المرّان تلقى كأنّها ** تذرّع خرصان بأيدي الشواطب

وسامحني ملكاهنين ومالك ** وثعلبة الأخيار رهط القباقب

رجالٌ متى يدعوا إلى الحرب يسرعوا ** كمشي الجمال المشعلات المصاعب

إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا ** صدود الخدود وازورار المناكب

صدود الخدود والقنا متشاجر ** ولا تبرح الأقدام عند التضارب

ظأرناكم بالبيض حتّى لأنتم ** أذلّ من السّقبان بين الحلائب

يجرّدن بيضاً كلّ يوم كريهةٍ ** ويرجعن حمراً جارحات المضارب

لقيتكم يوم الحدائق حاسراً ** كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب

ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ** إلى حسبٍ في جذم غسّان ثاقب

قتلناكم يوم الفجار وقبله ** ويوم بعاث كان يوم التغالب

أتت عصبٌ للأوس تخطر بالقنا ** كمشي الأسود في رشاش الأهاضب

فأجابه عبد الله بن رواحة:
أشاقتك ليلى في الخليط المجانب ** نعم، فرشاش الدمع في الصدر غالب

بكى إثر من شطّت نواه ولم يقم ** لحاجة محزونٍ شكا الحبّ ناصب

لدن غدوةً حتى إذا الشمس عارضت ** أراحت له من لبّه كلّ عازب

نحامي على أحسابنا بتلادنا ** لمفتقر أو سائل الحقّ واجب

وأعمى هدته للسبيل سيوفنا ** وخصمٍ أقمنا بعدما ثجّ ثاعب

ومعتركٍ ضنكٍ يرى الموت وسطه ** مشينا له مشي الجمال المصاعب

برجلٍ ترى الماذيّ فوق جلودهم ** وبيضاً نقيّاً مثل لون الكواكب

وهم حسّرٌ لا في الدروع تخالهم ** أسوداً متى تنشا الرماح تضارب

معاقلهم في كلّ يوم كريهةٍ ** مع الصدق منسوب السيوف القواضب

وهي طويلة.
وليلى التي شبب بها ابن رواحة هي أخت قيس بن الخطيم، وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري.
بعاث بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة، وقال صاحب كتاب العين وحده: وهو بالغين المعجمة.

.ذكر غلبة ثقيف على الطائف والحرب بين الأحلاف وبني مالك:

كانت أرض الطائف قديماً لعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. فلما كثر بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. كان بنو عامر يصيفون بالطائف ويشتون بأرضهم من نجد، وكانت مساكن ثقيف حول الطائف، وقد اختلف الناس فيهم، فمنهم من جعلهم من إياد فقال ثقيف اسمه قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي ابن إياد من معد، ومنهم من جعلهم من هوازن فقال: هو قيس بن منبه ابن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
فرأت ثقيف البلاد فأعجبهم نباتها وطيب ثمرها فقالوا لبني عامر: إن هذه الأرض لا تصلح للزرع وإنما هي أرض ضرع ونراكم على أن آثرتم الماشية على الغراس، ونحن أناس ليست لنا مواشٍ فهل لكم أن تجمعوا الزرع والضرع بغير مؤونة؟ تدفعون إلينا بلادكم هذه فنثيرها ونغرسها ونحفر فيها الأطواء ولا نكلفكم مؤونة. نحن نكفيكم المؤونة والعمل، فإذا كان وقت إدراك الثمر كان لكم النصف كاملاً ولنا النصف بما عملنا.
فرغب بنو عامر في ذلك وسلموا إليهم الأرض، فنزلت ثقيف الطائف واقتسموا البلاد وعملوا الأرض وزرعوها من الأعتاب والثمار ووفوا بما شرطوا لبني عامر حيناً من الدهر، وكان بنو عامر يمنعون ثقيفاً ممن أرادهم من العرب.
فلما كثرت ثقيف وشرفت حصنت بلادها وبنوا سور على الطائف وحصنوه ومنعوا عامراً مما كانوا يحملونه إليهم عن نصف الثمار. وأراد بنو عامر أخذه منهم فلم يقدروا عليه فقاتلوهم فلم يظفروا، وكانت ثقيف بطنين: الأحلاف وبني مالك، وكان للأحلاف في هذا أثر عظيم، ولم تزل تعتد بذلك على بني مالك فأقاموا كذلك.
ثم إن الأحلاف أثروا وكثرت خيلهم فحموا لها حمىً من أرض بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال له جلذان، فغضب من ذلك بنو نصر وقاتلوهم عليه، ولجت الحرب بينهم. وكان رأس بني نصر عفيف بن عوف ابن عباد النصري ثم اليربوعي، ورأس الأحلاف مسعود بن عنب. فلما لجت الحرب بين بني نصر والأحلاف اغتنم ذلك بنو مالك ورئيسهم جندب ابن عوف بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم من ثقيف لضغائن كانت بينهم وبين الأحلاف، فحالفوا بني يربوع على الأحلاف.
فلما سمعت الأحلاف بذلك اجتمعوا. وكان أول قتال كان بين الأحلاف وبين بني مالك وحلفائهم من ني نصر يوم الطائف، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانتصر الأحلاف وأخرجوهم منه إلى وادٍ من وراء الطائف يقال له الحب، وقتل من بني مالك وبني يربوع مقتلة عظيمة في شعب من شعاب ذلك الجبل يقال له الأبان. ثم اقتتلوا بعد ذلك مسميات، منهن يوم غمر ذي كندة، من نحو نخلة، ومنهن يوم كرونا من نحو حلوان، وصاح عفيف ابن عوف اليربوعي في ذلك اليوم صيحة يزعمون أن سبعين حبلى منهم ألقت ما في بطنها، فاقتتلوا أشد قتال ثم افترقوا. فسارت بنو مالك تبتغي الحلف من دوس وخثعم وغيرهما على الأحلاف، وخرجت الأحلاف إلى المدينة تبتغي الحلف من الأنصار على بني مالك، فقدم مسعود بن معتب على أحيحة بن الجلاح أحد بني عمرو ابن عوف من الأوس، وكان أشرف الأنصار في زمانه، فطلب منه الحلف، فقال له أحيحة: والله ما خرج رجل من قومه إلى قوم قط بحلف أو غيره إلا أقر لأولئك القوم بشر مما أنف منه من قومه، فقال له مسعود: إني أخوك، وكان صديقاً له، فقال: أخوك الذي تركته وراءك فارجع إليه وصالحه ولو بجدع أنفك وأذنك فإن أحداً لن يبر لك في قومك إذ خالفته؛ فانصرف عنه وزوده بسلاح وزاد وأعطاه غلاماً كان يبني الآطام، يعني الحصون، بالمدينة، فبنى لمسعود بن معتب أطماً، فكان أول أطمٍ بني بالطائف، ثم بنيت الآطام بعده بالطائف. ولم يكن بعد ذلك بينهم حرب تذكر.
وقالوا في حربهم أشعاراً كثيرة، فمن ذلك قول محبر، وهو ربيعة بن سفيان أحد بني عوف بن عقدة من الأحلاف:
وما كنت ممّن أرّث الشّرّ بينهم ** ولكنّ مسعوداً جناها وجندبا

قريعي ثقي أنشبا الشرّ بينهم ** فلم يك عنها منزعٌ حين أنشبا

عناقاً ضروساً بين عوفٍ ومالكٍ ** شديداً لظاها تترك الطّفل أشيبا

مضرّمةً شبّاً أشبّا وقودها ** بأيديهما ما أورياها وأثقبا

أصابت براء من طوائف مالكٍ ** وعوفٍ بما جرّا عليها وأجلبا

كجمثورةٍ جاؤوا تخطّوا مآبنا ** إليهم وتدعو في اللقاء معتّبا

وتدعو بني عوف بن عقدة في الوغى ** وتدعو علاجاً والحليف المطيّبا

حبيباً وحيّاً من رباب كتائباً ** وسعداً إذا الداعي إلى الموت ثوّبا

وقوماً بمكروثاء شنّت معتّبٌ ** بغارتها فكان يوماً عصبصبا

فأسقط أحبال النساء بصوته ** عفيفٌ إذا نادى بنصرٍ فطرّبا

عفيف هذا بضم العين وفتح الفاء.

.نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده:

واسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، محمد، وقد تقدم ذكر ولادته في ملك كرى أنوشروان، وهو محمد بن عبد الله، ويكنى عبد الله أبا قثم، وقيل: أبا محمد، وقيل: أبا أحمد بن عبد المطلب. وكان عبد الله أصغر ولد أبيه، فكان هو عبد الله وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، عاتكة، وأميمة، وبرة ولد عبد المطلب، أمهم جميعهم فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة.
وكان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت في حفر زمزم، كما نذكره، لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى. فلما بلغوا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب فيه اسمه. ففعلوا وأتوه بالقداح، فدخلوا على هبل في جوف الكعبة، وكان أعظم أصنامهم، وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة.
وكان عند هبل سبعة أقداح، فيكل قدح كتاب، فقدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به، فإن خرج نعم عملوا به، وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمراً ضربوا به، فإذا خرج لا لم يعملوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم، وقدح فيه ملصق، وقدح فيه من غيركم، وقدح فيه المياه. إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحيث ما خرج عملوه به؛ وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً ينكحوا جاريةً أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب أحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوه صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه منكم كان وسيطاً، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفاً، وإن خرج عليه شيء سوى هذا مما يعملون به، فإن خرج نعم عملوا به، وإن خرج لا أخروه عامهم ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.
وقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضر على بني هؤلاء بقداحهم هذه. وأخبره بنذره الذي نذر، وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم إليه. فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج قدح عل عبد الله. فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى إساف ونائلة، وهما الصنمان اللذان ينحر الناس عندهما. فقامت قريش من أنديتها، فقالوا: ما تريد؟ قال: أذبحه، فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بإبنه حتى يذبحه. فقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته، فإن أمرتك بما لك وله فيه فرجٌ قبلته.
فانطلقوا إليها، وهي بخيبر، فقص عليها عبد المطلب خبره، فقالت لهم: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها. ثم غدوا عليها فقالت لهم: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل، وكانت كذلك. قالت: ارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرج على صاحبكم فزيدوا عشراً حتى يرضى ربكم. وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
فخرجوا حتى أتوا مكة، فلما أجمعوا لذلك قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل، فخرجت القداح على عبد الله، فزادوا عشراً، فخرجت القداح على عبد الله. فما برحوا يزيدون عشراً وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل. فقال من حضر: قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب ثلاث مرات. فضربوا ثلاثاً، فخرجت القداح على الإبل، فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
وأما تزويج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة ابنة وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فرغ عبد المطلب من الإبل انصرف بإبنه عبد الله وهو آخذ بيده فمر على أم قتال ابنة نوفل بن أسد أخت ورقة بن نوفل، وهي عند البيت، فقالت له حين نظرت إليه والى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ فقال: مع أبي. قالت: لك عندي مثل الذي نحر عنك أبوك من الإبل وقع علي الآن. قال: إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو سيد بني زهرة، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب، وهي لبرة بنت عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وبرة لأم حبيب بنت أسد بن عبد العزي بن قصي، وأم حبيب لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب.
فدخل عبد الله عليها حين ملكها مكانها فوقع عليها فحملت بمحمد صلى الله عليه ولم، ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي عرضت عليه نفسها بالأمس فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة.
وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل.
وقيل: إن عبد المطلب خرج بإبنه عبد الله ليزوجه فمر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مر متهودة من أهل تبالة فرأت في وجهه نوراً وقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال لها:
أما الحرام فالممات دونه

والحلّ لا حلّ فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه

ثم قال لها: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه. فمضى فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. فأقام عندها ثلاثاً ثم انصرف، فمر بالخثعمية فدعته نفسهإلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنت أردت؟ فقالت؟ يا فتى ما أنا بصاحبة ريبةٍ ولكني رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون لي فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدي؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب. قالت فاطمة بنت مر:
إنّي رأيت مخيلةً لمعت ** فتلألأت بحناتم القطر

فلمأتها نوراً يضيء له ** ما حوله كإضاءة البدر

فرجوته فخراً أبوء به ** ما كلّ قادح زنده يوري

لله ما زهريّة سلبت ** ثوبيك ما استلبت وما تدري

وقالت أيضاً في ذلك:
بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكم ** أمينة إذ للباه تعتركان

كما غادر المصباح عند خموده ** فتائل قد بلّت له بدهان

فما كلّ ما يحوي الفتى من تلاده ** لعزمٍ ولا ما فاته لتوان

فأجمل إذا طالبت أمراً فإنّه ** سيكفيكه جدّان يعتلجان

سيكفيكه إمّا يدٌ مقفعلّةٌ ** وإمّا يدٌ مبسوطةٌ ببنان

ولّما حوت منه أمينة ما حوت ** حوت منه فخراً ما لذلك ثان

وقيل: إن الذي اجتاز بها غير هذا، والله أعلم.
قال الزهري: أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراً فمات بالمدينة. وقيل: بل كان في الشام فأقبل في عير قريش فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة، وقيل: ثمان وعشرون سنة، وتوفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عايذ بن عمران بالذال المعجمة، والياء تحتها نقطتان، وعبيد بفتح العين، وكسر الباء الموحدة. وعويج بفتح العين، وكسر الواو، وآخره جيم.

.ابن عبد المطلب:

واسمه شيبة، سمي بذلك لأنه كان في رأسه لما ولد شيبة، وأمه سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية النجارية، ويكنى أبا الحارث، وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشماً شخص في تجارة إلى الشام، فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجي من بني النجار، فرأى ابنته سلمى فأعجبته فتزوجها. وشرط أبوها أن لا تلد ولداً إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهه وعاد من الشام فبنى بها في أهلها ثم حملها إلى مكة فحملت. فلما أثقلت ردها إلى أهلها ومضى إلى الشام فمات بغزة.
فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بالمدينة سبع سنين. ثم إن رجلاً من بني الحارث بن عبد مناف مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال له الحارثي: من أنت؟ قال: أنا ابن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة قال للمطلب، وهو بالحجر: يا أبا الحارث تعلم أني وجدت غلماناً بيثرب وفيهم ابن أخيك ولا يحسن ترك مثله. فقال المطلب: لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به. فأعطاه الحارثي ناقةً فركبها وقدم المدينة عشاء فرأى غلماناً يضربون كرة فعرف ابن أخيه فسأل عنه فأخبر به، فأخذه وأركبه على عجز الناقة. وقيل: بل أخذه بإذن أمه، وسار إلى مكة فقدمها ضحوة والناس في مجالسهم فجعلوا يقولون له: من هذا وراءك؟ فيقول: هذا عبدي. حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم. فقالت: من هذا الذي معك؟ قال: عبد لي. واشترى له حلةً فلبسها ثم خرج به العشي فجلس إلى مجلس بني عبد مناف فأعلمهم أنه ابن أخيه، فكان بعد ذلك يطوف بمكة فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله هذا عبدي.
ثم أوقفه المطلب على ملك أبيه فسلمه إليه. فعرض له نوفل بن عبد مناف، وهو عمه الآخر، بعد موت المطلب، في ركح له، وهو الفناء، فأخذه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قريش وسألهم النصرة على عمه، فقالوا له: ما ندخل بينك وبين عمك. فكتب إلى أخواله من بني النجار يصف لهم حاله، فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكباً حتى أتى الأبطح، فخرج عبد المطلب يتلقاه، فقال له: المنزل يا خال! قال: حتى ألقى نوفلاً. وأقبل حتى وقف على رأسه في الحجر مع مشايخ قريش، فسل سيفه ثم قال: ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ركحة أو لأملأن منك السيف! قال: فإني ورب هذه البنية أرد عليه ركحه، فأشهد عليه من حضر ثم قال لعبد المطلب: المنزل يا ابن أختي. فأقام عنده ثلاثاً، فاعتمروا وانصرفوا.
فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا بشر بن عمرو وورقاء بن فلان ورجالاً من رجالات خزاعة فحالفهم في الكعبة وكتبوا كتاباً. وكان إلى عبد المطلب السقاية والرفادة، وشرف في قومه وعظم شأنه. ثم إنه حفر زمزم، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، التي أسقاه الله تعالى منها، فدفنتها جرهم، وقد تقدم ذكر ذلك.